2018/07/04

«45 سنة».. حب أم خيانة؟



الماضى لا يموت أبدا، فهو موجود بشكل أو بآخر، ختى وإن كنا لا نعى بوجوده، لكنه فى لحظة ما سيطفو على سطح الذاكرة قبل أن يختفى فى سلام، أو يبقى ليدمر الحاضر.
فيلم "45 سنة - 2015" من إخراج وسيناريو البريطانى "اندرو هايج"، يناقش مشكلة الحب، والتى ربما ستبقى عصية على التعريف أو التوصيف، حيث يطل الماضى فى حياة زوجين كبار فى السن، فى اللحظة التى يستعدان فيها للاحتفال بمرور 45 سنة من الزواج المستقر، مهددا بتدمير هذا الاحتفال الذى تننظره الزوجة بشغف، مكرسة له كل وقتها، مهتمة بكل التفاصيل الصغيرة من حجز القاعة إلى اختيار الموسيقى وقوائم الضيوف، والماكياج، وكأنه إعادة ليوم زفافهما.
يطرح الفيلم العديد من الأسئلة حول  ماهية الحب؟ ومعنى الخيانة؟، ليس المقصود هنا الخيانة المادية لكن النفسية، وهى الأسئلة التى ستدور فى ذهن المتفرج باحثا عن أجوبة لها: ماذا لو كان أحد طرفى العلاقة يحب موسيقى معينة أو قراءة كتاب محددة، لمجرد أن حبه القديم كان مهتما بذلك، هل يمكن أن نطلق على ذلك اسم "خيانة"؟.
الفيلم مقتبس من قصة قصيرة بعنوان "بلد آخر" للكاتب ديفيد قسطنطين، وقام ببطولته شارلوت رامبلينج فى دور كيت، وتوم كورتيناى فى دور جيوف، زوجان عجوزان، يعيشان أيام التقاعد فى قرية صغيرة هادئة، وفجأة يرد خطاب للزوج يخبره بأن حبيبته التى كان يعرفها منذ 50 عاما تم العثور على جثتها فى أحد الأنهار المتجمدة بجبال سويسرا، وأنه عليه الحضور للتعرف عليها.
 يبرز الماضى السحيق بكل ثقله على حياة جيوف السعيدة، لقد غرقت حبيبته أو التى كان يعتقد الناس –وقتها- أنها زوجته، أثناء رحلة تسلق، وهى فى السابعة والعشرين من عمرها، فتاة فى مقتبل شبابها بينما هو الآن فى خريف العمر، وهنا تبدو الصدمة، صدمة الماضى الذى يتمثل حاضرا أمام ناظريه، الشباب فى مقابل الشيخوخة، النضارة فى مقابل التجاعيد، إنها لعبة الزمن المراوغة، ليقرر جيوف فى النهاية عدم الذهاب، ليس لأنه كبير فى السن ولن يستطيع السفر أو صعود الجبال كما قال لزوجته، ولكن لأنه سيقابل الحقيقة التى لا يرغب فى مواجهتها، حبه الأول ما زال شابا محتفظا بأمل وتحدى وجنون العشرينيات من العمر، بينما هو فى عمره الحالى ينظر للماضى فى استسلام، خاضعا لسطوة الزمن بلا حول أو قوة، يتذكر الماضى وكأنه يتفرج على شريط سينما، فالحب الأول لا يموت سيظل دائما فى ريعان شبابه مقاوما الزمن، محتفظا بعنفوانه ولحظات سعادته التى لن تتكرر بنفس الشعور مرة أخرى.
بمرور الوقت تكتشف كيت أن علاقة زوجها بحبيبته القديمة لم تكن مجرد قصة عادية، لكن هذا الاكتشاف جاء متأخرا لمدة 45 عاما، فذلك الحب كان مثل الشبح طوال هذه السنوات، رافقها دون أن تدرى به أو تراه، الكتب التى يقرأها زوجها أو الموسيقى التى يحبها لم تكن تحصه، ليست جزءا من شخصيته، حتى أنه يحتفظ بثلاث نسخ من أحد الكتب، ورغم ذلك لم ينه أبدا فصوله الأولى، كل ذلك كان يخص شخص آخر، يخص الماضى حتى وإن كان ينتمى إلى تاريخ سابق على تعارفهما، وهو يحاول كل يوم قراءة أو سماع شيئ ما يذكره بهذا الماضى، وهو ما تعتبره "كيت" خيانة لحبهما وزواجهما، وإلا فماذا تكون الخيانة إذن؟
أدت شارلوت رامبلينج دورا من أفضل الأدوار خلال 2015 واستحقت الترشح عنه لجائزة اوسكار أفضل ممثلة فى 2016، بينما حصلت على جائزة الفيلم الأوروبي لأفضل ممثلة، وجائزة الجمعية الوطنية للنقاد السينمائيين لأفضل ممثلة، كما حصل الفيلم على ثلاث جوائز فى مهرجان برلين السينمائى، وهى الدب الذهبى لاندرو هايج، وأفضل ممثلة لشارلوت، وأفضل ممثل لتوم.
استطاعت شارلوت وببراعة التعبير عن كل القلق والتوتر والغيرة والغضب والتسامح والحب الذى يدور بداخل شخصية كيت، خصوصا وأن الحوار فى الفيلم كان قليلا واعتمد فى الكثير من المشاهد على تعبيرات الوجه أو نبرة الصوت والنظرات ولحظات الصمت، ومن أجمل مشاهد الفيلم عندما خرجت "كيت" إلى "العلية" أو "السندرة" لتبحث فى متعلقات زوجها عن أى تفاصيل حول الحبيبة القديمة، لتستعرض على البروجيكتور صورا لرحلة سوبسرا، فى البداية كانت تعبيرات وجهها محايدة وربما فضولية، ومع استمرار عرض الصور التى التقطت بجوار إحدى البحيرات، بدأت ملامحها فى التغير، ليبدو على وجهها شعور  بالغيرة والذهول والصدمة ثم الغضب، خاصة وأن الصور الأخيرة كانت تظهر الحبيبة وكأنها حامل فى شهورها المتقدمة، لنسمع صوت وشيش الماء يبدو منخفضا ثم يعلو ببطء، ناقلا الإحساس بزمن التقاط الصورة بكل تفاصيله الصغيرة، وفى مشهد آخر، تنظر "كيت" إلى سقف "السندرة" بخوف وتمرر يدها متحسسة المكان الذى يجمع الكثير مما يتعلق بغريمتها، لتسمع مجددا وشيش الماء، وكأن ما هو موجود فى الأعلى ليس مجرد صور وذكريات، ولكن حياة حقيقية تنبض بالعشق.
"توم كورتيناى" أدى أيضا دورا مهما، ذلك العجوز الذى يرغب فى الانسحاب من الحياة وعدم المشاركة فى المناسبات الاجتماعية، الناقم دوما على كثير من الأشياء، يعانى بداخله من الصراع بين حبين، حب من الماضى يعيش مع ذكرياته وآخر هو حبه لزوجته التى قضى معها كل هذه السنوات، ويظهر هذا الصراع بعد تلقيه خطاب العثور على جثة حبيبته محفوظة فى الجليد، هل يذهب لرؤيته والتعرف عليها أم ينسى الموضوع برمته، هذا التردد يعكس قلقه الداخلى ليس من زوجته الحالية فقط وحرصه على مراعاة مشاعرها، ولكن من قدرته على الصمود ومواجهة حبه القديم، حتى وان كان حذا الحب ميتا، ليصرح لزوجته بأنه لن يسافر ثم يذهب من ورائها إلى مكتب سفريات للسؤال عن رحلات سويسرا،  أو أن يستيقظ فى منتصف الليل ويصعد "للسندرة" للبحث عن صورها،  فى مشهد رائع لا نراه فيه، حيث تركز الكاميرا على وجه "كيت" بينما نسمع صوته يأتى من الأعلى ضعيفا ومشوشا ومتلعثما، ليرد على استفسار زوجته، بأنه عثر على صورة لها بالصدفة، لكنها تصحح له الأمر "هناك فرق بين أن تعثر على صورتها وبين أن تذهب خصيصا للعثور عليها".
فى مشاهد انغماس "جيوف" فى ذكرياته مع الماضى، كان صوته يبدو متعثرا، يعانى فى البحث عن الحروف والكلمات وتكوين جملة مكتملة، بينما نظراته تائهة تبحث عن شيئ ما غير موجود، خصوصا عندما تحاصره "كيت" بالأسئلة، أو عندما يحاول إقناعها بشكل يحاول جاهدا أن يكون عفويا، بأن ما يحكيه عن حبه القديم هو أمر عادى لا يستحق الانتباه، وانه بالتأكيد أخبرها ذات يوم مضى بكل شييء، يظهر "جيوف" فى المشاهد التى يكون فيها الحب القديم حاضرا، وكأنه ارتكب خطيئة يحاول بكل الطرق إخفائها، مثل طفل صغير يتم اكتشاف كذبته بسرعة، حتى أن قامته تبدو مثقلة تحت وطأة الذكريات والسنوات، ظهر منحنى وخطوات بطيئة وعدم اهتمام بالملابس وذقن نابتة، سطوة الماضى هنا تترك قسوتها وآثارها على الروح، على عكس المشاهد الأخرى، حيث يبدو فيها صوته رائقا بلا تلعثم، وجسد متماسك وذهن حاضر بالنسبة لمن فى عمره، ،  .
المخرج النمساوى مايكل هينكه أخرج فيلما فى 2012، باسم "حب"، يدور حول عجوزين يعيشان فى شقتهما بباريس، قصة حب أخرى استمرت لعقود من الزمن، ولكنه يتناولها من زاوية مختلفة، تتعلق بأقصى مدى يمكن أن يصل إليه الحب، حتى لو كان ذلك بارتكاب أحد الخطايا العشر وهى القتل، ليتساوى فعل الحب مع القتل، فى ثنائية تعكس مدى التعقيدات التى تكتنف المشاعر الإنسانية، لكن فى فيلم "45 سنة" يدور السؤال عن الحب فى مواجهة سطوة الماضى، وإن كان فيلم هينكه انتهى بالقتل فإن فيلم اندرو هايج ينتهى بنوع من التصالح مع الواقع، والانتصار على الماضى لصالح الحاضر، وعلى غير ما كانت تتوقع "كيت" من زوجها، تنهمر دموعه فى الكلمة التى ألقاها فى حفل مرور أربعة عقود ونصف من الحياة معا، قائلا بصدق "كلما تقدّمنا في العمر نتوّقف عن اتخاذ القرارات المهمّة، ربما لأننا حصلنا على الكثير منها  في حياتنا، إن القرارات التى نتخذها فى صغرنا مهمّةٌ جدا، مثل القرار التي اتخذته  مع كيت قبل 45 سنة". ليرقصان على أغنية زفافهما "سألونى كيف اعرف بأن حبى حقيقى.. فأجبت بكل بساطة.. قلبى لا يمكنه إنكار ذلك".

ليست هناك تعليقات:

«45 سنة».. حب أم خيانة؟

الماضى لا يموت أبدا، فهو موجود بشكل أو بآخر، ختى وإ ن كنا لا نعى بوجوده، لكنه فى لحظة ما سيطفو على سطح الذاكرة قبل أن يختفى فى سلام، ...